مدونة كرم عساني

اللاإنجابية باختصار

سأحاول شرح وتوضيح الرؤية اللاإنجابية باختصار شديد ضمن هذه المقالة. لكن قبل ذلك، عليك أولًا قراءة المقالة المتعلقة "عدم الوجود هو أفضل دائمًا من الوجود".

ما هي اللاإنجابية؟

مع أن الترجمة الأفضل والأدق لكلمة antinatalism هي "معاداة الإنجابية"، الحاصل أن معظم الناس يترجموها إلى "اللاإنجابية" (أقرب إلى anatalism)، وأظن أن هذه الترجمة غير الدقيقة هي سبب رئيسي لسوء الفهم المحاط بهذا المفهوم. بالرغم من ذلك، أنا اخترت الترجمة الأخيرة لأنها ببساطة الترجمة المستخدمة في كل مكان.

اللاإنجابية هي رؤية أخلاقية تنص على أن الإنجاب هو فعل سيء (ذو قيمة سلبية). طبعًا يقصد بالإنجاب هنا خلق كائن حي عاقل (sentient) جديد عن طريق عملية تكاثر يقوم بها كائنات حية عاقلة موجودة فعلًا. مع العلم أن بعض اللاإنجابيين يحدون هذه الرؤية ضمن البشر فقط، كونهم الحيوانات الوحيدة القادرة على التحكم في غرائزها التكاثرية (أشك في ذلك 🤓) والنتائج المترتبة عليها (هذا له علاقة بأن النظريات الأخلاقية بشكل عام تحد نفسها ضمن البشر، لأسباب ليست ضمن موضوع هذه المقالة). اتباعًا لذلك، سأناقش هنا اللاإنجابية بحيث تكون محدودة ضمن البشر.

الإنجاب فعل سيء. لماذا؟

لأن عدم وجود أي إنسان هو أفضل له من وجوده. بالتالي عندما تنجب طفلًا، أنت هنا تختار له الحالة الأسوء، وهي وجوده، في حين أنه كان بامكانك ترك الحالة في وضعها الافتراضي (عدم وجوده). لاحظ هنا أن اختيار وجود هذا الطفل يعتمد على قرارات يتخذها أناس موجودون فعلًا، وبالتالي تقع المسؤولية الأخلاقية لوجود هذا الطفل على هؤلاء الأناس.

لتقريب الأمر إلى الذهن أكثر: لنفترض أن لديك طفل غير قادر على اتخاذ القرارات المعقدة بعد (عمره عام واحد مثلًا) ولنفترض أنك تعيش في مدينة تصل الكهرباء لها وتقطع بطرق عشوائية (مثل المدينة التي أعيش فيها أنا 😭)، وكان لديك خيار تنفيذ العملية التالية:

  1. التأكد من أن الكهرباء مقطوعة (في لحظة بدء العملية). وجعل الفرن يعمل بمجرد وصول التيار الكهربائي لمنزلك (يعني وصله).
  2. وضع الطفل في الفرن لمدى 10 ثوان فقط (بغض النظر إن وصلت الكهرباء إلى منزلك خلال هذه الـ10 ثوان أم لم تصل).

الآن في حال وصول التيار الكهربائي لمنزلك سيعمل الفرن وسيسبب أضرار معينة لجسد الطفل الذي في داخله. يعني بالمختصر يوجد احتمال أن يؤذي الفرن طفلك لمدة 10 ثوان، أو 9، أو 8، أو أو أو.... أو أن لا يعمل الفرن أساسًا (لأنه الكهرباء لم تصل إلى منزلك في هذه الثواني العشرة). لديك الخيار بفعل هذه العملية، وفي حال لم تفعلها فلن يخسر طفلك، أو أنت، أو أي شخص في هذا الكون أي شيء (بالمطلق). هل تقوم بها؟

أظن أن جوابك سيكون لا. فأي عملية ليس لها أي فوائد (بالمطلق)، ولكن لها أضرار محتملة (ولو كانت نسبة حدوث الضرر هي 0.0000000000000000000000000000001%)، من التأكيد أن إجراء هكذا عملية هو فعل غبي.

الآن دعنا نتذكر شيئًا عن الأخلاق. تصبح القضية قضية أخلاقية فقط عندما تؤثر بشكل سلبي أو إيجابي على المحيط. بكلمات أخرى، يمكن القول عن فعل ما أنه "أخلاقي" أو "غير أخلاقي" فقط عندما يكون لهذا الفعل تأثير خارجي محسوس من قبل المحيط. طبعًا جميع الأفعال لها تأثير خارجي، ولكن ليست جميع هذه التأثيرات محسوسة من قبل المحيط، كما أن اعتبار تأثير ما سلبي أو إيجابي يعتمد على رؤية هذا المحيط (وهذا يفسر اختلاف مفهوم الأخلاق من فرد لآخر، فكل محيط يتأثر بطريقة مختلفة).

الآن، قضية إنجاب طفل هي قضية أخلاقية، لماذا؟ لأن قرار إنجاب الطفل بكل بساطة له تأثيرات سلبية وإيجابية على المحيط. ولكن المحيط هنا يمثل أمور كثيرة، ربما المجتمع، ربما العائلة، ربما الدولة إلخ... لا يهم كل هؤلاء. اللاإنجابية تعنى فقط بتأثير قرار إنجاب الطفل على الطفل نفسه.

عدم وجود الطفل هو أفضل له من وجوده، وأنت هنا تقرر أن يصبح موجودًا. ما هي الأضرار المحتملة بالنسبة لهذا الطفل في حال لم تقرر إنجابه؟ صفر. طيب في حال قررت إنجابه؟ أنت هنا تختار لهذا الطفل الحالة الأسوء.

إن قرأت المقالة المتعلقة بتمعن، ستتذكر أن الوجود هو عبارة عن رهان، أو سلسلة متواصلة من الرهانات، إما أن تعيش اللحظة في سعادة أو في ألم. فلربما تكون شقيًا في حياتك، ولربما تكون سعيدًا، والحقيقة هي أننا نعيش بين البينين. الآن دعنا نتفرض أن احتمال أن تكون حياة إنسان ما يطغى فيها الألم على السعادة هو نسبة معينة لكل حياة، وكذلك درجة هذا الطغيان هي نسبة معينة لكل حياة. طبعًا هذه النسب تختلف من شخص لآخر حسب الشخص والبيئة المحيطة به.

الآن دعنا نعود إلى مثال الطفل والفرن، لنعتبر أن الطفل ذو العام الواحد هو نفسه الطفل الذي لم يوجد بعد، ولنعتبر أن عملية وضعه بالفرن هي عملية الإنجاب، ولنعتبر أن سلسلة احتمالات أن يحرق الطفل لمدة تتراوح بين الصفر ثانية (لن يحرق أبدًا) وبين العشر ثوان؛ هي نفسها سلسلة احتمالات ودرجات أن يطغى الألم على السعادة بالنسبة لحياة الطفل. الآن، هل عليك فعلها؟ هل عليك وضع الطفل في الفرن؟ لاحظ أنه في حالة عدم الإنجاب، الطفل لن يخسر شيئًا! ولكن في حالة الإنجاب، أنت تضع الطفل ضمن احتمالات معينة بأن يحرق بدرجات متفاوتة، ولربما لن يحرق (مع أن ذلك مستحيل عمليًا، في حالة الحياة أقصد لا الفرن). ما هو الخيار الصائب؟

بما أن قرار إنجابك سيؤثر بشكل مباشر على الطفل، فنحن هنا أمام قضية أخلاقية: وضع طفلك في الفرن هي فعل غير أخلاقي لأنه، وبأشد أنواع البساطة، يمكنك عدم اختيار ذلك! يمكنك عدم إنجاب هذا الطفل! أنت من تقرر أن تظلم هذا الطفل بنقله من حالة عليا (وهي عدم الوجود) إلى حالة دنيا (وهي الوجود). على من تقع هذه المسؤولية الأخلاقية؟ بشكل عام لا يوجد جواب متفق عليه، ولكن معظم اللاإنجابيين يضعون المسؤولية على والدي الطفل كونهم السبب الأكثر مباشرة في وجوده.

ملاحظات مهمة عن اللاإنجابية

اللاإنجابية هي رؤية أخلاقية وليست أسلوب حياة

العديد من الناس تخلط بين اللاإنجابية antinatalism، وهي رؤية أخلاقية تخص عملية الإنجاب، وبين عدم الإنجاب الطوعي voluntary childlessness، وهو أسلوب حياة يتضمن عدم احتواء الأطفال (سواء بالإنجاب أو التبني أو غيره). يمكن للاإنجابي أن ينجب الأطفال، ولكن هنا عليه أن يعترف أن فعلته غير أخلاقية (وإلا فهو ليس لاإنجابيًا). وبالنسبة لعدم الإنجاب الطوعي، فهو مجرد أسلوب حياة وله أسباب كثيرة وعديدة، فمثلًا الويكيبيديا الإنجليزية ذكرت أكثر من 45 سببًا للمشي في هذا الأسلوب الحياتي، اثنان فقط منها يتعلق باللاإنجابية! لذلك رجاء ميزوا بين الفلسفة وبين أسلوب الحياة.

معارضة الإنجاب لأسباب متعلقة بالمحيط الخارجي لا تعتبر ضمن اللاإنجابية

العديد من الناس ترفض فكرة الإنجاب لأسباب أخرى غير متعلقة بقضية الطفل ووضعه في ذلك الفرن الوجودي. أسباب مثل: كره الأطفال، التعدد السكاني، الفقر، الانتماء العرقي، الوجود ضمن بلد ما، إلخ... يعني أسباب خارجية بحتة. هؤلاء الناس لا يمكن القول عنهم أنهم لاإنجابيون (في الواقع، "الفاشيون" هي تسمية أقرب لتفكيرهم)، فهم يقترحون عدم الإنجاب لأسباب تخصهم لهم ولا تخص الطفل المعنى بإنجابه أو عدم إنجابه. بالنسبة للاإنجابي، عدم الإنجاب هو ليس حل لأي مشكلة يعاني منها العالم حاليًا، عدم الإنجاب هو الفعل الافتراضي الذي يقوم به جميع البشر في جميع اللحظات؛ إلا في لحظات معينة حيث يتعدى بعض هؤلاء البشر على الأطفال ليأتوا بهم من العدم، كما فعل والديك بك (ووالداي بي كذلك الأمر). يعني باختصار، امتناعك عن الإنجاب لن يحل مشكلة الفقر، فاذهب للبحث عن الحلول الحقيقية!