إعادة النظر بمفهوم الجنة
أغلب من ينتقد مفهوم الجنة يذهب إلى أنها فكرة بشرية بشكل واضح، ولكن هل تنتهي الأمور هنا؟
مقدمة
في البداية، أريد توضيح أن ما أقصده بـ"الجنة" هو المفهوم المنتشر في الوسط الذي ترعرعت فيه، وهو المفهوم السائد بين متبعي الإسلام، وبعض الديانات الأخرى المؤثرة والمتأثرة. يمكن وصف هذا المفهوم ضمن التعريف التالي:
الجنة هي السعادة الأبدية، مكان يمكن أن تطلب فيه ما تشاء، ولا يوجد فيه ألم، ولا يوجد فيه خروج أو فناء.
الجنة هي مكافئة "من عمل صالحًا" (لسنا في صدد مناقشة ذلك.) وورد وصف هيئة الجنة في كثير من الكتابات الإسلامية، أن فيها حدائق وقصور، وطعام (غالبًا vegan) وأنهار من المشروبات الكحولية (ولكن بدون كحول 🥴) وكائنات "جميلة" تشبه إناث البشر، حسب رؤية الكاتب آنذاك (spoiler: الكاتب شهواني). هذه الأوصاف بشكل عام تضم ما كان يتمناه فئات من العرب في القرن السابع الميلادي. يمكن للقارئ المحلل أن يرى بكل وضوح كيف أن هذه الجنة هي مجرد حلم بشري متأثر بثقافة معينة وفيه بعض الأمور الأساسية المشتركة مع بعض الديانات الأخرى، مثل السعادة الأبدية.
ولكن، ومع تحليل أعمق، يمكننا رؤية أن من حلم بهذا الحلم ووعد به لم يفكر بكلامه كثيرًا، وأن من أنصت له لم يفكر به كذلك الأمر. وهذا ما سأناقشه في هذه المقالة.
ولكن قبل ذلك أريد توضيح فكرة: نحن نتفرض أننا "نحن" من سيبعث (فرضًا) إلى الآخرة، بطبيعتنا البشرية. من يقول غير ذلك فهو يقترح بشكل غير مباشر أن أشخاص آخرين سيبعثون تحت وكالتنا وليس نحن. لأن "شخص" الإنسان هو حالة عصبية موجودة ضمن بيئته الفيزيائية (بشكل أدنى) والاجتماعية (بشكل أعلى). وأي تغيير في هذه الحالة (داخليًا أو خارجيًا) سيؤدي إلى تغيير هذا الشخص، حتى ولو بشكل غير ملحوظ. نعم، أنت في بداية قراءة المقالة هو شخص مختلف عن أنت الآن، ولكن الاختلاف هنا لا يلاحظ. يمكنك ملاحظة الاختلاف عند تمديد هذه المدة الزمنية من دقائق إلى أعوام أو حتى عقود. جرب ذلك!
الألم والسعادة ثنوية
الأمور تعرف بأضدادها، والسعادة والألم أضداد: لا يمكن معرفة إحداهما بدون معرفة الآخر. لا يمكن أبدًا إدراك أي مفهوم دون إدراك ضده (سواء كنظرية أو تطبيق). نعم، لا يمكنك الشعور بالسعادة دون إدراك الألم، وإدراك الألم يستلزم أن يكون موجودًا، نظريةً أو تطبيقًا، وهذا ينافي أن الجنة ليس فيها ألم.
يمكنك المجادلة بأن الألم في الجنة سيكون مجرد نظرية، مجرد مفهوم متأصل في الوعي بدون أي تطبيق، ولكن اسمح لي أن أجادل بأن هذا لا يكفي لأن تشعر بالسعادة تطبيقيًا. يمكنك الاستقاء من تجارب حياتك هذه، يمكنك الرجوع إلى علم الأعصاب وعلم النفس وعلم الاجتماع، في النهاية ستجد أن الألم هو سبب السعادة، والسعادة هي سبب الألم. هذه معادلة: فلا يمكن تغيير إحدى أطرافها بدون تغيير الطرف الآخر (بالمثل).
يمكنك أيضًا المجادلة بأننا في الجنة سنتذكر الألم الذي عشناه في هذه الحياة، أو أننا سنرى كيف أن الناس يتألمون في الجحيم، وبالتالي ستبقى الثنوية محققة. وهنا لدي ردان، الأول هو أن تذكر أو رؤية الألم -بشكل أو بآخر- سيسبب لك الألم، وهذا منافٍ للتعريف المفروض. والرد الثاني (على نقطة تذكر الألم في الحياة الحالية) هو أنه مع مرور الوقت، لا يمكنك تذكر شعور معين بدون تجربته مجددًا، دعنا نقل أنه مر عام أو عامين، أو 10 أعوام، أو ربما 100 عام، أو 1000؟! لا أظن أنك بعدها ستتمكن من تذكر شعور الألم بشكل يحقق الثنوية ويعطيك السعادة "التطبيقية".
الأبدية والسعادة متناقضان
معظم الناس (وربما جميعها) لا يمكنها إدراك ماهية الأبدية، لأن الأبدية هي امتداد للانهاية، ولأن البشر، وبكل بساطة، لا يمكنها إدارك اللانهاية. حتى في الرياضيات والفلسفة، اللانهاية هي إحدى أكثر المفاهيم جدلًا عبر التاريخ. التفكير باللانهاية كموضع (كنهاية) هو تفكير عبثي (يمكنك رؤية التناقض بالنظر إلى أن "اللانهاية" تعنى "لا نهاية")، ولكن لا يزال بإمكاننا توقّع ماذا تؤول إليه الأمور عندما نقترب شيئًا فشيئًا إلى الأبدية، عندما نسعى إلى الأبدية.
هل فعلًا يمكننا تحقيق السعادة ضمن نطاق الأبدية؟ هل أنت تدرك فعلًا ماذا تعني كلمة "إلى الأبد"؟ دعنا نقل، أنك بطريقة ما، شعرت بأقصى أنواع النشوة والحماس لأول شهر، لأول سنة، لأول قرن، لأول مليون سنة! ألن تشعر بالملل؟ لقد طلبت كل شيء تقريبًا. إذا أخذنا تراتيب جميع الأمور الأساسية التي يمكن فعلها في هذه الحياة، سنرى أن عدد التجارب الممكنة هو عدد ضخم جدًا، عدد لا يمكن تخيله! ولكن للأسف، هذا العدد هو عدد منتهٍ. وبالتالي إنه الوصول إلى هذا العدد هو أمر محتوم. وعند الوصول، ستشعر بالملل الخالص، شعور أنه لا يوجد شيء لتفعله، أن خياراتك أصبحت معدومة. حينها، ستتمنى أن ينتهي وعيك، أن تفنى بحق، وهذا عليه أن يتحقق، بما أن جميع رغباتك يمكن تحقيقها حسب التعريف، ولكن الجنة أبدية أيضًا حسب التعريف، ولا يوجد فيها خروج أو فناء، وبالتالي فالتعريف منتاقض.
وعلى ذكر التمني، دعنا نرى هل يمكننا فعلًا تمني كل شيء في الجنة...
رغبات الجميع لا يمكن تحقيقها كلها بالوقت نفسه
في هذه الحياة، على الإنسان أن يتخلى عن كثير من الأمور -أن يضحي بالكثير من الحقوق- من أجل أمور وحقوق أخرى. اختلاف حياة فرد عن حياة غيره هو اختلاف بالظروف الخارجية أولًا، وبطريقة ترتيب هذا الفرد لأولوياته في الحياة ثانيًا.
ولكن في الجنة، جميع رغباتك يمكنك تحقيقها، ليس عليك التضحية أو التخلي عن أي شيء، هذا حسب التعريف. ولكن هل يحتمل هذا الكلام التأمل العقلاني؟ "إرضاء الناس غاية لا تدرك"، لا يمكننا تحقيق رغبات الجميع في نفس الوقت، هذا عبثي. في أي نظرية اجتماعية، يمكننا فورًا إدراك أن جميع العلاقات المجتمعية قائمة على فكرة التخلي والتضحية، ويمكننا تمييز وتنصيف المجتمعات البشرية على حسب درجة ونوع تضحية الفرد فيها من أجل الجماعة والشأن العام. التضحية غالبًا هي التخلي عن السعادة على المدى القصير من أجل السعادة على المدى الطويل. والتخلي يعني الشعور ببعض الألم، وهذا لن يحدث في الجنة التي نناقشها.
هل تعلم لماذا يوجد آلاف الأديان والأيدولوجيات والرؤى عن اليوتوبيا؟ لأنه البشر مختلفين، لأن رغباتهم مختلفة، وفي صراع دائم مع رغبات الآخرين. نظريًا، يمكن فقط تحقيق جميع هذه الرغبات في حال كان كل إنسان يعيش في عالمه الخاص، ولا يؤثر على عالم غيره. هذا لا يعارض -بشكل مباشر- تعريف الجنة (ولكنه يعارض أغلب التصورات عنها)، ولكنه لا يزال غير واقعي لأنك -في عالمك الخاص- جميع البشر هناك ستكون رغباتهم بطريقة ما متلائمة مع رغباتك، بالتالي هؤلاء البشر هم، بطريقة ما، مجرد نسخ منك. وأنا لا أظن أن العيش مع النسخ سيكون طريقة فعالة لتحقيق السعادة. وفي حال لم يوجد أحد غيرك في عالمك، هنا أيضًا سنرى أن النشاطات التي يمكن فعلها ستكون أقل بكثير (هذا ما عدا أن الطبيعة البشرية لا تميل إلى الوحدة)، والمدة المطلوبة حتى تشعر بالملل ستكون أقصر بكثير.
خاتمة
ربما لن نتمكن من إثبات أي شيء، ولكن يمكننا نقض الكثير، والكثير من الأمور. أغلب الناس لا تفكر بالمعتقدات التي ورثتها عن مجتمعاتها، غالبًا بسبب الخوف والكسل. ولكن في النهاية، التفكير هو السلاح الوحيد الذي سيسقط الدوغما والمعتقدات البالية (وقد فعل). ربما لن نصل إلى الحقيقة يومًا، ولكننا، وبدون شك، نتقرب منها.